لم أكن أحتاج إلى إعادة التربية من طرف أعوان هم بحاجة إليها ! كان محكوما عليّ بثلاث سنوات سجن، بعد محاكمتي في المحكمة العسكرية ببشار في إطار جنحة، وهذه الجنحة ليست مُصنّفة في إطار قانون العقوبات الجنائي. قضيت سنة كاملة من العقوبة التي سُلطت عليّ. لم تكن قضيتي تخصّ الشعب ولا الدّولة الجزائرية وإنّما كانت محصورة في القيادة العسكرية آنذاك بخصوص صراعي معهم.
كان المفترض أن أقضي باقي عقوبتي في سجن عسكري، فماهي الخلفية التي على أساسها يا ترى تمّ تحويلي الى سجن مدني ؟ حوكمت في ظروف استثنائية في المحكمة العسكرية ببشار، وفي حالة الطوارئ التي كانت تطبع البلد، ومع كلّ الذي حصل، كانت أقصى عقوبة في حقي هي ثلاث سنوات؟ سأحدّثكم بعد حين عن كيفية استقبالي، ليس من طرف الشرطة العسكرية هذه المرّة، بل كيف استقبلت في سجن مدني من طرف مدنيين ! جاؤوا بي من سجن بشار، وعندما وصلت سجن البرواقية،كنت مقيّدا بقيود حديدية خفيفة، "كالتي تضعها الشرطة عندما يمسك بأحد المتهمين". وضعوا أغلالا في يدي، وفي رجلي، لم أتخيلها في حياتي.
كنت رأيتها في فليم عن تاريخ اليابان في القرن العاشر، وعندما وضعوها لي: أحسست أنني أعيش في عالم آخر ! أمروني أن أمشي بها فلم أستطع. فانهالوا علي ضربا، ثم وضعوني في زنزانة تحت الأرض في جناح مظلم وبارد، مع المحكوم عليهم بالإعدام. لم يكتفوا بتقييدي بالأغلال، بل ربطوني داخل الزنزانة التي كانت رطبة وكانت تسيل منها بعض المياه!
عندما سمع المساجين الذين كان أغلبهم من أنصار الجبهة الاسلامية بقدومي، قاموا بالاحتجاج على الطريقة التي عوملت بها، مّما اضطرّ المسؤولين على إدارة السّجن أن يُغيّروا من تصرّفهم نحوي، وسمحوا لي أن ألتحق بالمساجين. وضعوني في زنزانة انفرادية، حيث لا توجد أدنى الحقوق لكرامة الانسان. "كان هذا هو الترحاب بي" !
كان الهدف من هذا السجن ومن هذه المعاملات اللاّإنسانية، هو تحطيم النفس البشرية، وإذلال المواطنين الجزائريين، ونزع كرامتهم وترويضهم كالبهائم ! من حظي أنني كنتُ مهيأ نفسيا لمثل هذه الظروف القاسية، نظراً لتكويني العسكري، وكنت مستعداً حتى لظروف الحرب، فمع كلّ الضغوط التي مورست علي، بقيت صامداً ومحافظاً على شخصيتي وأمسك بأعصابي. لاشكّ أنّ من المدنيين الذين تعرّضوا لمثل هذه الظروف، سيتغير حالهم وسيصبحون عدوانيين ومضطربين نفسيا ... وربّما منهم من يُصبح منتقماً ممّن تتسبّبوا له في هذه المأساة، وهذا هو الغرض من معاملة السّلطة للمساجين !
بعد تعرّفي على أوضاع السّجن، اكتشف أنه من بين 1200 سجين، هناك أكثر من نصف عدد المساجين مستواهم جامعي.صنف من الدكاترة، والفلاسفة، والأساتذة، والأطباء ...، وصنف آخر من الشباب في مقتبل العمر، وفي ظل المراهقة والتحوّل الفيزيولوجي ... تمّ تدمير مستقبلهم بالإتيان بهم الى هذا المكان السيء الذكر، إلى درجة أنهم لم يعودوا يُفرّقون بين الماضي والحاضر ! شرّ البلية ما يُضحك !
ذات يوم قام السّايح عطية أمير جماعة إسلامية مسلّحة تسمّى "الكتيبة الخضراء"، وقبض على بعض حرّاس السّجن، وهدّدهم بالقتل. أمسك واحداً من بينهم و رمى الرّصاص بقرب أذنيه، قائلا له: في حالة الإساءة إلى المساجين: سأضع رصاصة في أنفك المرّة القادمة ! وبعدما أطلق سراح الحرّاس أصبحوا يتعاملون مع المساجين بنوع من اللّيونة. وهكذا تغير حال المساجين في تلك المرحلة ! تحوّل السّجن الذي أراده النظام جحيماً إلى جامعة تكوين، وهذا بفضل الأساتذة الموجودين هناك، والدّعاة، والأطباء، وبفضل الإرادة الصادقة ! تمّ فتحُ ورشات للتعليم، والمناظرة، والتفسير، والتجويد، والتوعية، ومحو الأمية لبعض المتقدمين في السنّ "الذين عوّضوا سنوات الضياع"... ووصل الأمر الى التنافس في المسابقات !
استمرّت هذه الفترة سنة كاملة، كنّا في تقدم ملحوظ ! طلبت من أهلي أن لا يزورني أحد منهم في السجن، طيلة العقوبة التي فُرضت علي. "كنت أعلم مكر النظام". حصل تحوّل في قناعة مدير السجن، الذي كان مجاهدا في منطقة الأوراس بالشرق الجزائري، بعدما استشعر حجم ما تعرّضت له من ظلم، وبعدما تعرّف علي، استدعاني وكلّمني ، و عرض عليّ أن أتصل بعائلتي وأستقبلهم في مكتب بالسّجن، فرفضت ذلك وقلت له: إذا كان الأمر يعمّ كلّ المساجين فلا بأس بذلك. حدّثني عن بعض الترتيبات الأمنية ، فوعدته أن تكون الزيارة منظمة !
اتصلت بالأخوة في السّجن وطرحت عليهم الأمر، ومن ثمّ قمنا بتنظيم الزيارات أيّام العيد، أين التقى الإخوة مع عائلاتهم مباشرة ! ومن ثمّ وصل الأمر إلى السّلطات عبر الجواسيس، أين تمّ توقيف مدير السّجن واستبداله بآخر ! تمّ تحويل مساجين الى جهات أخرى، وتمّ جلب مساجين من سجن السّركاجي ومن سجن لومباز ...كان من بينهم من له علاقات مع مدير السجن الجديد، أين بدأت تسوء العلاقات وأصبح من الصّعب التعرّف على المساجين الجدد.
بدأ التحضير في الكواليس إلى عملية فرار، وتمّ غرس أناس داخل السّجن. كان الهدف هو: تصفية دعاة بعينهم ! تمّ تكليف أناس بإدارة عملية الفرار من السجن، واستهداف أناس محدّدين، لتصفيتهم ! كان من الصّعب اقناع أناس باغتيال الداعية السعيد بسّايح في مدينة الأغواط على سبيل المثال ! اقتنع المكلّفون بمهمّة الفرار بضرورة العدول عن رأيهم، وهكذا تمّ إفشال محاولة التصفية الجسدية الأولى... كنت من بين المستهدفين في هذه العملية !
ثمّة من قال: كيف لرجل مثل أحمد شوشان، يُزكيه السعيد مخلوفي والمجاهد شبوطي تتم تصفيته ؟ على أيّ أساس ؟ أقول هذا: لأنّ هناك من بين الشباب من اتّصل بي وقال هذا الكلام. استمرّت عملية التدبير للفرار، وتم استدراج شخصين، ومن ثم رميهما بالرّصاص وهكذا ، وجدت إدارة السجن الفرصة الكاملة لتصفية المساجين في غمرة الفوضى ! لم يُقتل جميع المستهدفين في هذه العملية، بل تم حصار البناية التي دفع إليها حوالي 1200 سجين ! كانت هذه البناية محاطة بسور، بعده سور، وبعد السّور سور أكبر منهما.
بعد كلّ ذلك، هناك الثكنة العسكرية. بحيث، لو قرّر أيّ سجين الفرار فإنّه بعد تجاوز كل هذه الأسوار سيسقط حتما داخل الثكنة العسكرية ! لم يحدث أيّ مرّة أن فرّ السجناء في التاريخ من هذا السّجن، إلاّ اذا كان هناك تواطؤ مباشر من طرف الدولة. الأمن نفسه هو من كان يُخرج السجناء، أمّا ما عدا ذلك، فمن المستحيل أن يفرّ أيّ سجين ! في هذا الوقت، اقتحمت القوّات الخاصة التابعة للدرك، التي كانت مُشكّلة من حوالي 500 دركي، ومعهم حوالي 250 حارس أمن تابعين لجهاز العدالة. لا أتكلّم هنا عما كان يجري خارج السّجن، من شرطة وجيش ... بل تركيزي سيبقى على ما كان يجري داخل حرم السّجن. تمّت مُساومة المساجين على الخروج، وكان هناك أخذ وردّ.
عد ذلك، أمر قائد فرقة الدرك المساجين بالخروج صباحا في اليوم الموالي، وإلاّ سنتعرض الى الكارثة. كان وضع المساجين مأساوي حقا، حيث لا أكل ولا ماء ولا ضياء، ولا أيّ شيء يمكّننا من المقاومة، لمدة ثلاثة أيّام. ومع ذلك، تم اقتحام العمارة، وقتل مالا يقل عن 50 سجينا بالرّصاص الحيّ. أمّا الجرحى، فهناك حوالي 1000 سجين أصيبوا بجروح متفاوتة، كما تم القتل والتقطيع والتمثيل بمجموعة في القاعة 1 وحرقهم، وتمّ ردمهم في حفرة بمنطقة تاخابيت بين المدية والبرواقية !أنا أتحدث عمّا رأيته بعيني وسمعته بأذني، ومن أراد أن يتأكد من صدق كلامي، فما عليه إلاّ تكوين لجنة تقصّي، لتُِحقق في المكان المذكور، باستعمال وسائل العصر.
كان أحد المساجين الجواسيس يقول لحرّاس السجن، كنت أشير إليكم من بعيد، عندما كنتم ترمون الرّصاص عليّ، ألم تتعرفوا علي ؟ اتصل بي بعض المحامين كانوا مبعوثين من طرف ديوان رئيس الجمهورية اليمين زروال ووصفت لهم المشهد كما سبق. بعد هذه المجزرة الرهيبة، وهذه الجريمة النكراء، بدأ المساجين في الخروج، أين استقبلهم الحرّاس ورجال الدرك بقضبان من حديد عيار14 ملم في أحد الأروقة، وكأنه يوم الحشر؟ هذه القضبان: كانت مخصّصة لتحصين السّجن في الجهة العلوية مع الأسلاك!
عندما يمرّ السّجين بالرواق يشبع ضربا بهذا القضيب الحديدي، و ينتهي به المطاف عاريا ومُدَكْدَكاً. كان النّاس عراة في ذلك اليوم القارص، حيث كانت الثلوج تتساقط وكان الموقف رهيبا !هناك من بين المساجين: مجاهدون وأبناء مجاهدين، وآباء لشهداء، وأساتذة وتلاميذهم... إنّه يوم لا يمحى من الذاكرة !كانت الأرض عبارة عن إسمنت مُسلّح، حيث من برودة المكان وضيقه، كان المساجين يتناوبون على الجلوس. كان الثقب الوحيد الذي يوجد هو : مكان قضاء الحاجة في المرحاض !كانوا يُخرجون المساجين مرّات عديدة في اليوم، وكلّ مرّة يخرج المساجين، يدخلون ضربا ويخرجون كذلك ! تمّ تزويدنا بلباس يُعطى للمحكوم عليهم بالإعدام، هذا النّوع من اللباس: عبارة عن خيش، يُستخدم في القديم لصنع الأكياس !
بعد أسبوع، بدأ الدّود يخرج من أجسام بعض المساجين، حتى وصل الأمر بأن يتم تطهير المساجين عن بعد، بالسوائل المضادة لبعض الجراثيم! تعرضنا كلّنا إلى هذا الأمر بنسب متفاوتة ! بقينا على هذا الحال مدّة شهرين، وبينما لم يبق لي كثيرا من عقوبتي، بدأوا بتحضير مؤامرة أخرى يوم خروجي من السجن ! تمّ تحويلي إلى سجن الحرّاش، أين أكملت العقوبة التي سُلّطت علي، ومن غرائب النظام: تمّ اختطافي يوم خروجي من السّجن وأنا في قاعة الانتظارمن طرف مجموعة تنتمي إلى الأمن العسكري ! جاؤوا من بن عكنون خِصِّيصًا ! أخذوا بالقوة مني ورقة إثبات الخروج من السجن وبدأتُ في مرحلة أخرى من المعاناة. تمّ تحرير الشهادة من حوار مطول أجريته مع النقيب أحمد شوشان، يوم 30 ديسمبر 2010، على قناة المصالحة بالأنترنت.
إرسال تعليق